دراسة أنتربولوجية لدور الجامعات العربية في تطوير المجتمع العربي

دراسة أنتربولوجية لدور الجامعات العربية في تطوير المجتمع العربي

عن موقع التعليم العربي

منذ أن وجدت الحياة على هذه المعمورة، أي قبل حوالي بليون ونصف بليون السنة على وجه التقريب، والأحياء في صراع مستمر مع البيئة الطبيعية لتكييفها ولتصبح أكثر ملائمة للحياة، وليتمكن الحي فيها من اشباع حاجاته الفسيولوجية والاجتماعية. وعندما كان الحي يعجز عن تكييف البيئة لأسباب قاهرة كان يتكيف هو نفسه وأعضاؤه لمناسبة هذه البيئة، ومن ذلك استغناؤه عن بعض الأعضاء التي لا تتمكن من صراع الطبيعة، أو تطويرها إلى أعضاء أكثر ملاءمة. والحيوانات التي لم تتمكن من عمل هذا أو ذاك انقرضت كما ترى الحفريات.

كان معظم الأحياء في العصور الغابرة، عصور ما قبل التاريخ، عاجزا عن تكييف الطبيعة والسيطرة عليها، مع أنه حاول القيام بذلك. فكان يضطر للتكيف تبعاً للتغيرات الجيولوجية. فظهرت الزواحف – مثلاً – قبل قرابة ربع بليون السنة نتيجة لا نحسار المياه التي كانت تغمر الأرض. وقد كانت جميع الحيوانات تعيش فبل هذا التاريخ في الماء .

لقد خضع الإنسان  الأول، الذي كان موجوداً قبل ملايين السنين، للطبيعة خضوعا شبه تام، وكان يتكيف كما تملى عليه ظروفه، وقد اعتمد على عضلاته وقوته فقط ليتمكن من جمع غذائه وحماية نفسه، وبقى كذلك حتى العصور الحجرية عندما أخذ يفكر في اختراع أدوات بسيطة يستعملها في قهر الطبيعة. وكانت تلك الحقبة ثورة جعلت الإنسان  يفكر في تغيير علاقته بالبيئة.

وما اختراع الآلة والأدوات وسيلة ناجعة لأحداث ذلك التغيير. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا والإنسان  دائب على تطوير الأدوات الموجودة واختراع أدوات أخرى كي يتمكن من السيطرة على الطبيعة. والعنصر الهام في تطوير الإنسان  لأدواته هو زيادة الطاقة التي تنتجها تلك الأدوات، فعندما استعمل الإنسان  في العصر الزراعي، (نيولثك) آلة المحراث اضطر لتدجين الحيوانات التي تساعده في جر تلك الآلة. فأصبح الإنسان  قادرا على زراعة الأرض واستثمارها خصوصا وأنه كان قد اكتشف النار التي سهلت عليه طبخ طعامه على اقتسام الطعام.
والثورة التالية التي نجح الإنسان  في أحداثها هي ثورة التكنولوجيا. وبهذه الثورة تمكن الإنسان  من السيطرة شبه الكاملة على البيئة الطبيعية. فأخذت بعض المجتمعات الإنسان ية – وبفضل التكنولوجيا – تنتج غلة من الطعام أكثر من حاجات أفرادها بكثير. وأخذت هذه المجتمعات تعيش في رخاء مادي لا حدود له. وقد ساعدت التكنولوجيا مساعدة فعالة في تطوير الآلات بشكل سريع وسريع جدا، مما أدى ألي زيادة الطاقة التي تمكن من السيطرة على الطبيعة .

وتعيش الإنسان ية هذه الأيام ثورة جديدة هي الثورة الإلكترونية وعصر الذرة، التي تتمكن من إنتاج طاقات هائلة قادرة على تدمير الطبيعة بدلا من السيطرة عليها فقط، واذا ما أساء الإنسان  استعمال هذه الطاقات فأنها ستجلب له الدمار والاندثار .
كانت مقدرة الإنسان  في تكييف البيئة وجعلها أكثر ملاءمة لحياته، تزداد فعالية في كل حقبة تطورية من الحقب السابقة. وعندما تعقدت الحياة نتيجة لتقدم التكنولوجيا وكثرة المعارف أخذ الإنسان  يفتح مدارس العلم ومعاهده لنقل تراثه الى الأجيال اللاحقة .. إلا أن الإنسان  لم يكتف بحفظ ما توصلت أتليه الأجيال السابقة فقط وانما طور هذه المخلفات واخترع وفجر معارف أخرى وأضافها الى مخزن المعرفة ووضعها بين أيدي المتعلمين والعاملين ليسير هؤلاء نحو الهدف الرئيسي للإنسان وهو التحكم بالبيئة تسخير ما فيها للحياة في سعادة ورخاء .

يقاس تقدم المجتمعات وحداثتها في عصرنا بمقدار تفوقها في ميادين التكنولوجيا والصناعة، ذلك التفوق الذي يجلب التقدم الاقتصادي نتيجة لاستغلال المصادر الطبيعية بشكل فعال. وقد أثبت التاريخ المعاصر أن المجتمع المتقدم صناعيا لابد أن يكون متقدما في معظم نواحي الحياة الأخرى كالناحية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والعسكرية، وكثيرا ما تسيطر هذه المجتمعات على المجتمعات الأخرى التي هي دونها في الصناعة. ومع أننا لا ننادي باستخدام الآلات والصناعة والطاقات الهائلة في الدمار والحروب الا أن الواقع يبرز لنا بأن المجتمع أو النوع الذي لا يقوى على تكييف نفسه حسب واقعه لابد وأن ينقرض. ونلاحظ أن بعض المجتمعات المتطورة تسئ فيهم نظريات التطور وتفسرها على غير ما عناه أصحابها، فنظرية داروين (البقاء للأصلح)، فان داروين لم يقصد بنظريته أن المجتمع المتقدم يفرض سيطرته على المجتمع النامي .

يحدثنا علماء الإنسان  عن انقراض الديناصور وغيرها من الأحياء التي لم تتمكن من التكيف مع واقعها وبيئتها، ويتنبأ أحد هؤلاء العلماء بانقراض الغورلا اذا لم يغير أساليب حياته. (Ardrey 1961:115) وقد بنى تنبؤه على ملاحظته للغورلا عدة سنوات. فقد لاحظ أن الغورلا كسول ومكتئب، وهو لا يحتفظ لنفسه بوطن دائم كبقية الحيوانات، وانما يسير تلقائيا في النهار وينام في الليل، واذا ما جاء للنوم لا ينظف مكان نومه، وإذا ما أراد التبرز فانه لا يبتعد عن مكان نومه وكذلك ان حياته الجنسية تكاد تكون معدومة .

ولا نريد هنا أن ندعو الى التشاؤم، فمعظم الإحياء يجبر على التكيف مع بيئته وعلى تكييف هذه البيئة لاشباع حاجته. ففي تاريخ الأحياء ومنذ الخلق الأول لم تدل الحفريات على انقراض أنواع كثيرة. وتلك التي يخبرنا علماء الإنسان  عن انقراضها هي الدناصر والنمور وذوات الأنياب الطويلة. كذلك الحال بالنسبة للمجتمعات، فانها قليلا ما تنقرض وانما يلازمها فترات خمول وتدن وقلة تفتح للحياة، فتمر بما يسمى عصور الظلمة أو الانحطاط أو التخاذل أو السقوط. ويروي لنا التاريخ سقوط امبراطوريات كثيرة بعد بنائها وترعرها لفترات طالت حينا وقصرت أحيانا أخرى، من هذه الامبراطوريات، امبراطورية مصر الفرعونية، والامبراطورية الفرنسية، والصينية، والبيزنطية والاسلامية. وربما كانت الامبراطورية البريطانية أقرب الإمبراطوريات إلى الأذهان، حيث كانت إلى عهد غير بعيد لا تغرب الشمس عنها. ويحدثنا ايزاندارت عن وجود عناصر متشابهة في بناء الإمبراطوريات وفي أسباب سقوطها، ويضيف أيضا بأن من مميزات أي إمبراطورية احتواء عناصر تقليدية وغير تقليدية

الهدف من الدراسة :
تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء بعض الضوء على دور الجامعات (مؤسسات تربوي ) في تطوير المجتمعات، وذلك بمساعدتها في التحكم ببيئتها الطبيعية وفي خلق الإنسان  الذي يتحلى بالقدرة على التكيف مع المجتمع المتطور الجديد. والمجتمع المعني في هذه الدراسة هو المجتمع العربي، والجامعات هي الجامعات الموجودة في المجتمع العربي. وقد اخترنا المجتمع العربي لأنه مجتمعنا الذي نطمع في تطويره ومساعدته على التكيف تكيفا أفضل، وليس بقصد إثارة نعرة قومية شوفينية .

تعريف الإصلاحات المستعملة :
هناك كلمات كثيرة تستعمل للتعبير عن أكثر من معنى، وبسبب من هذا الاستعمال غير المحدد أصبح من اللازم على الكاتب أن يحدد مضامين إصلاحاتهم مسبقا لكي لا تفهم على غير ما يعني، خصوصا إذا كانت هذه الكلمات من النوع الذي يستعمل بطريقة رومانسية ليعني حكما أخلاقيا. ومن هذه الكلمات كلمة تقدمية وما أشتق منها. تستعمل هذه الكلمة في الأحاديث السياسية لتعني شيئا حسنا، وتبعا لذلك فأنها تستعمل في معظم الأحيان لتأثير في الآخرين، أما في هذه الدراسة فأنها لن تعني سوى التتابع: أي أن هناك مرحلة تالية للمرحلة الحالية التي يمر فيها المجتمع، وما عليه إلا أن يتقدم نحوها في إطار التكيف وليس في إطار التطور الذي يعني الحتمية المرحلية. فالتقدم إذا كان في إطار التكيف فسوف يكون لصالح المتقدم وذلك بأنه يكون مخططا له، وليس تقدما تلقائيا وعشوائيا. وهذا هو المعنى الذي يقصده علماء الإنسان  بكلمة تقدمية، وقد أوضح ذلك سمبسون بقوله :

معنى التقدم  هامة

أن التقدم يعني التتابع الذي يظهر في كل الأشياء. ولابد أن يكون الإنسان  رومانسيا أن هو أعتقد بأن التقدم يكون دائما للإصلاح.  ويتابع سمبسون قوله على نفس الصفحة في كتابه معنا التطور بأن التقدم يكون في إطار التكيف، قائلا: عندما نقول بأن مجتمعا ما يتكيف فأننا نعني أن هذا المجتمع يمر بعملية تغيير علاقته مع بيئته، وذلك ليجعل هذه البيئة أكثر ملائمة للعيش فيها، أو أن هذا المجتمع يغير أساليب حياته لتكون أكثر ملائمة للحياة في تلك البيئة .

فإذا ما وضعنا التكيف إطارا للتغير فأن التقدم يكون ضمن هذا الإطار ولا يتعداه، وإلا فأنه يبلغ درجة الإفراط الذي ربما يقود إلى سوء التكيف. ومعروف عن بعض المجتمعات أنها تفرط في السير في اتجاه تعتبره تقدميا فتواجه نتيجة لذلك مشاكل سوء التكييف فتقدم مجتمع ما في فترة من الزمن نحو التكيف يصبح لا تقدمية في فترة أخرى من الزمن إذا ما تم الكيف وتحقق الهدف من ذلك التقدم. كذلك فان المجال الذي يتم فيه التقدم ربما يقود إلى سوء التكيف إذا ما أفرطنا فيه. ولإيضاح هذا لابد من مثل واقعي: إن استعمال الآلة بدل استعمال القوة الحيوانية يساعد مجتمعا – كالمجتمع العربي – على زيادة الإنتاج ورفع المستوى الاقتصادي … الخ المجتمع العربي في المرحلة في هذه أمس الحاجة إلى التصنيع ليتمكن من تكييف بيئته الطبيعية واستغلالا فعالا. أما بالنسبة للمجتمع الأمريكي فان الأمر مختلف. فقد كانت حاجته إلى التصنيع ملحة قيل قرن على وجه التقريب. فقد كانت فكرة تقدمية في ذلك الوقت. أما اليوم فقد اصبح لديه سوء تكيف نتيجة للإفراط في التصنيع الذي تقدم كثيرا بالمقارنة مع المؤسسات الأخرى في ذلك المجتمع وخرج عن إطار التكيف. فأصبح المجتمع الأمريكي اليوم مجتمع ثراء لديه من الإنتاج ما يفيض عن حاجته، خصوصا وان طبقة معينة منه تمتلك النصيب الأكبر من هذا الثراء، فأخذ يضطر إلى تسويق هذا الفائض في مجتمعات أخرى كوسيلة للتكيف، مما أدى إلى حدة التوتر السياسي، وبالتالي إلى الحروب المستمرة خارج نطاق الوطن الأمريكي .

أما كلمة تطور، فتعني في العادة التغير البطيء .وسوف تستعمل هنا لتدل على مراحل متتالية من التكيف والتقدم. أي أن التطور عدة تكيفات لنفس المجتمع عبر فترة طويلة من الزمن تبلغ مئات السنين وربما تصل إلى آلافها.

والتكيف يدل على الحاضر والمستقبل القريب الذي يقع في عدة سنوات. ومن التكيف مشاريع الخطط الخمسية، حيث يقصد منها الوصول بالمجتمع إلى غاية قريبة استعدادا للدخول في مرحلة أخرى من التكيف ..وهكذا .. وعندما تتكلم عن المجتمع فإننا سنعني المجتمع العربي ما لم يشر إلى غيره. والمجتمع العربي هو: ذلك المجتمع الذي يضم كل من يتكلم باللغة العربية، أو يعيش في الوطن العربي المعروف بحدوده الجغرافية، ويشارك متكلمي اللغة العربية ثقافتهم ويعيش طرقهم في الحياة، ويربط مصيره بمصيرهم. ومعروف أن المجتمع العربي في غالبيته متأثر بالثقافة الإسلامية، وبخاصة القرآن الكريم الذي يعتبر محافظاً على اللغة العربية.

إن المعروف عن اللغة العربية أنها متأثرة بالقرآن الكريم، ولها سحر خاص يصلح للأدب والفنون أكثر من صلاحيته للعلوم. ويرجع السبب في ذلك إلى عدم تكييف اللغة وتطويرها لتتناسب والروح العلمية للعصر المحاضر. فتركيب اللغة العربية بوضعها الراهن وما فيها من توكيد ومبالغة ..الخ ..بعيداً عن الدقة العلمية التي هي ضرورة لبناء أي علم. وكثيراً ما يكتفي الإنسان  العربي بسحر الكلمة دون الالتفات إلى مضمونها. ولابد من اقتباس ما جاء في مقال فؤاد زكريا في معرض معالجته الدستور الدائم لمصر العربية :

أن للكلمة عندنا سحراً خاصاً، وقدرة عجيبة على التأثير تدفعنا إلى الاكتفاء بها، وتغنينا عن بذل الجهد من أجل إخراجها إلى حيز العقل.
فنحن لا نحب الكلمة فحسب. وإنما نستعيض بها عن الفعل الذي لم تظهر هذه الكلمة أصلاً إلا لكي تدعو إلى ممارسته . إن الاصطلاحات السابقة: التطور، التكيف، التقدم، المجتمع العربي، اللغة العربية، هي التي يشعر كاتب هذا البحث أنها بحاجة إلى الإيضاح وتحديد المعنى. وسوف تستعمل هذه الاصطلاحات لتعني المفاهيم السابقة .

أسئلة الدراسة :

لا بد لكل دارسة من أسئلة محددة يقصد الإجابة عنها. كما، أنها تحدد للباحث طرق البحث فيعرف مقدماً ما ينوي التفتيش عنه. وأسئلة هذه الدراسة تتعلق بما يجب أن يكون عليه دور الجامعات العربية حتى تتمكن من تطوير المجتمع العربي. وعلى وجه التحديد نرجو أن تجيب هذه الدراسة على الأسئلة التالية :

1- هل تتمكن الجامعات العربية من خلق المواطن الذي يمكنه أن يعيش في مجتمع متطور ؟

2- هل تتمكن الجامعات العربية من معالجة البيئة الطبيعية في الوطن العربي بقصد تحسين طرق استغلالها، خصوصاً الثروات المعدنية الموجودة فيها ؟

3- وبالتالي: هل تتمكن الجامعات العربية من جعل نفسها أداة تكيف للمجتمع العربي فتخلق من البيئة الطبيعية مكاناً ملائماً للعيش فيه، كما تخلق الإنسان  الذي يتمكن من العيش في هذه البيئة الجديدة ؟

هذه هي الأسئلة الرئيسية التي ستعالجها هذه الدراسة. ويمكن تلخيصها بالقول:

أن الجامعات العربية في هذه المرحلة من تطور المجتمع العربي لا بد أن تأخذ زمام المبادرة فتتولى قيادة المجتمع في تقدمه نحو مرحلة المجتمعات المتطورة .

أساليب البحث:

من الواضح أن الدراسة الميدانية في بحث كهذا مستبعدة. وذلك لأن الأسئلة المطروحة تبحث فيما سيكون وليس فيما هو موجود الآن. ولعل باحثين آخرين يقارنون بين ما هو موجود وما سيكون. فدراستنا هذه نظرية ومكتبية تنوي التخطيط للحاضر والمستقبل في ضوء المرحلة الحاضرة التي يمر فيها المجتمع العربي. لذا فإن علينا مراجعة ما كتب عن المجتمع العربي في مرحلته الحاضرة لمعرفة مركزه على سلم التطور، وهذا يساعدنا في معرفة المرحلة القادمة التي يجب أن يخطو نحوها المجتمع العربي. كذلك لا بد من مراجعة وبحث دور التربية وأهميتها في تطوير المجتمعات، وذلك بوضع أهداف للجامعات العربية وللتعليم فيها، تساعد المتعلم على المساهمة الفعالة في تطوير المجتمع .

الإطار النظري وخلفية الدراسة :

للتعليم علاقة وثيقة بنوع العمل الذي سيقوم به المتعلم بعد تخرجه. كما أنه يؤثر ويحدد نوع الدخل وكميته من هذا العمل. وإذا ما اقترن الدخل بنوع العمل الذي سيقوم به الفرد فان هذا يؤثر في قيم الفرد. وربما يطورها من تقليدية – إن كانت خلفية الفرد كذلك – إلى عقلانية – التي هي من أسس المجتمعات المتطورة .
لقد أجرى جوزف كاهل دراسة على مجتمعي البرازيل والمكسيك بقصد قياس مدى حداثة وتطور هذين المجتمعين بالنسبة للمجتمعات الأخرى. ولما كان هذان المجتمعان على نفس مستوى المجتمع العربي تقريبا، أو أنهما يمران في نفس المرحلة، فان التعميم الذي توصل إليه كاهل بالنسبة لهذين المجتمعين  يمكن ـ إلى حد ما ـ تطبيقه على المجتمع العربي. ففي نظر كاهل أن المجتمع يسير نحو الحداثة والتطور إذا ما ارتفع دخل أفراد الطبقة المتدنية ليصبح مناسبا لدخل الطبقة الوسطى، وذلك بتخفيض دخل أفراد الطبقة العليا لتصبح متوسطة أيضا .

عندما يرتفع دخل الفرد الريفي فانه يغير الصورة العقلية التي يحملها عن نفسه، ويترك طرقه التقليدية، ويسير نحو الحداثة، على عكس الفكرة السائدة عن الريفين والتي تقول أنهم لا يغيرون طرقهم التقليدية

فالأساس الأول الذي يراه كاهل دافعا نحو التطور هو ارتفاع مركز الفرد الاقتصادي ـ الاجتماعي، والذي أطلق عليه

(Socie-Economic Status :S. E. S.) وقد حدد هذا المركز بطريقة قياس مركباته التعليم، والوظيفة، والدخل، والطبقة الاجتماعية، التي يعتقد الفرد أنه ينتمي إليها. ولما كان الدخل والوظيفة يعتمدان إلى حد ليس بقليل على نوع التعليم والشهادة التي يحملها الفرد فانه يتسنى لنا أن نرى أهمية التعليم في تطوير الفرد المتعلم وتكييفه ليعيش في مجتمع متطور. وذلك للسلوك المنتظم الذي يتبعه الفرد طيلة حياته المدرسية، ولاتصاله بالعالم الخارجي عن طريق القراءة، ولتفاعله مع من هم أكثر حداثة منه في المدرسة من معلمين ومناهج وكتب مدرسية .

وقد أجرى كاتب هذا البحث دراسة على موظفي الدولة في الأردن، وكان الهدف من الدراسة معرفة مقدار تأثير الخلفية الاجتماعية للموظف على سلوكه الإداري واتجاهه أثناء الوظيفة. وكان المفروض أن يكون السلوك الإداري للموظفين الذين جاءوا من خلفية اجتماعية تقليدية (كالفلاحين والبدو) تقليديا إذا ما قورنوا بزملائهم من المدن. إلا أن النتائج أظهرت بأن أثر الخلفية الاجتماعية في السلوك الإداري للفرد ليس كبيرا ـ كما كان متوقعا، حيث كان التفريق (9169ر0) وهذه نسبة منخفضة جدا من الناحية الإحصائية. (Abu-Hilal 1970: 171 ) وقد فسرت هذه النتيجة كما يلي :

أولا ـ أزال التعليم اوكاد يزيل أثر الخلفيات الاجتماعية في الأفراد، فالموظفون الذين قورن سلوكهم واتجاهاتهم كانوا قد عاشوا مع بعضهم مدة طويلة خلال سني الدراسة تحت نفس الإدارة والبرامج مما صقل شخصياتهم في قالب واحد ،وجعلهم يسلكون أنماطاً متشابهة أو متقاربة في الوظيفة على الأقل إن لم يكن في خارجها أيضاً. كذلك فإن وجودهم في مكاتب واحدة قرب سلوكهم واتجاهاتهم لحد ما.
ثانياً – ربما كان سلوك واتجاه الموظفين التقليديين قهريا وليس طبيعيا وذلك لاحتياجهم الشديد للوظيفة وخشية العقاب المادي بالطرد أو الخصم. فالفئات التقليدية في الأردن غالباً ما تكون متدنية الدخل واحتياجها للوظيفة يكون أكثر
( Abu- Hilal 1970: 140 )

وقد حذرنا هناك بأن تشابه هذا السلوك ربما كان في الوظيفة فقط. أما في خارجها أي في البيت وفي حياته اليومية فربما يعود إلى سلوكه التقليدي ويكون التباين أكثر وضوحاً. فكما أوضحت سانياً حمادةً بأن الفرد العربي يتحلى بشخصيتين في آن واحد .إحداهما: عامة يظهر بها أمام الناس، وأخرى خاصة يظهر بها على السجية في البيت ومع من يشعر بالراحة في التفاعل معهم ( Hamady1960: 22- 33 )
وهذه صفة لا يتصف بها العرب فقط، وإنما يتصف بها كل فرد مهما تكن جنسيته أو مجتمعه ( Hall lindzey1957: 83-84) إلا أن الفرق يأتي من اتساع الهوة التي تفصل بين الشخصيتين. فبينما تكون واسعة في المجتمع العربي فأنها تكون أضيق في مجتمعات أخرى كالمجتمعات الأوربية، معتمدا على مدى تطور المجتمع المقارن، فكلما كان المجتمع أكثر تطورا كلما ضاقت هذه الهوة. كذلك فان هناك فروقا أخرى كثيرة بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات المتطورة في نظام القيم. وقد وجد كاهل في دراسته :

انه بينما تكون القيم التقليدية مقدسة وملزمة وثابتة في كل زمان ومكان لا تقبل التغيير: ويدعو للاتكال وقبول الحياة كما هي، وتحترم السلطة التقليدية كسلطة الأب والأخ الأكبر. فأن القيم الحديثة تكون عقلانية في طبيعتها ودنيوية تسمح بالاختيار من بدائل عديدة، وتحض على الدقة وتؤمن بالتغيير المستمر، وتحمل الفرد مسئولية عمله وحده دون عائلته
(Kahl 1968: 6) .

أما ليرنر فقد وجد الفرق بين إنسان المجتمعات المتطورة، وقرينه من المجتمعات التقليدية ـ وقد كانت دراسته عن الشرق الأوسط ـ فيما أسماه (Empathy) وقد عنى بذلك الشخصية المتحركة القادرة على التكيف السيكولوجي والطبيعي بأسرع ما يمكن (Lerner 1958 :49) ففي نظره أن الفرد في المجتمعات المتطورة يتحلى باستعداد نفسي عال للتكيف السريع مع الظروف الجديدة على عكس الإنسان  التقليدي كفرد المجتمع العربي. كذلك فان الإنسان  التقليدي لا يحب التغيير ولا يرتاح إليه. أما المجتمع المتطور فهو دائم التحرك والتغيير ويسمح دائما بالاختيار من عدة بدائل ويشجع العقلانية. (Lerner 1957: 48)
وصفة العقلانية هذه أو مرحلة المجتمع العقلاني لم يصل إليها المجتمع العربي بعد بالرغم من محاولاته الجادة للدخول فيها. ومن الصفات المميزة لهذه المرحلة السماح للعقل بالانطلاق والتحرر من قيود التقاليد. وقد دخلت المجتمعات الغربية هذه المرحلة منذ زمن طويل. وقد وصلت هذه المجتمعات الآن أعلى مراحل الحرية العقلية، وتحاول الآن اجتياز هذه المرحلة إلى مرحلة ما بعد الحرية. وقد وصف ذلك فؤاد زكريا بقوله :

ولو شئنا أن نلخص في عبارة واحدة طبيعة الأزمة العقلية التي تمر بها المجتمعات الغربية: ونحدد وجه الاختلاف الأساسي بينها وبين أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية، لقلنا: أن الأزمة عندهم هي أزمة ما بعد العقل، على حين أننا لا زلنا نمر بأزمة ما قبل العقل. أنهم قد تجاوزا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الذي ألفوه، أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهدا من أجل اكتشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه .

(فؤاد زكريا سبتمبر 1971).

إن مطالب العقل الضرورية هذه هي التحرر من عبودية التقاليد التي تضع العقل العربي في قالب معين، وتطبعه بطابع يجعله يحجم عن التفكير الحر. ويرجع ذلك إلى عدم الثقة في العقل والمنطق اللذان يخشى أن يفسدا الأخلاق ويخرجا الفرد على التقاليد. أن من يتفحص المكتبة العربية فانه سيجد أن معظم الكتب التي تبحث في التطور مثلا هي مترجمات من اللغات الأجنبية. ويجد ـ أيضا ـ أن المترجم يحاول إخفاء اعتقاده بها. فهو يكتب وكأنه يلقي اللائمة على غيره، فلا ينبري لتفنيدها ولا لتأييدها. كذلك فان من يتفحص الفكر العالمي لن يجد أثرا للفكر العربي المعاصر فيه

قدمنا فيما سبق أهمية التربية في تطوير الفرد، وكذلك أوضحنا المرحلة الفكرية التي يمر بها الفرد العربي، وقلنا بأنه تقليدي يحاول أن يدخل مرحلة العقلانية، وبأنه بطئ التحرك من الناحية السيكولوجية، واتكالي في حل مشكلاته اليومية. وفيما يلي سنتعرض للمجتمع العربي بكليته، لنرى موقعه بين المجتمعات الأخرى، ثم نحاول فهم المرحلة القادمة في تطور المجتمع العربي معتمدين في ذلك على الممر الذي اتخذته المجتمعات الأخرى، نأخذ منها ما يصلح لمجتمعنا ونترك ما يتعارض معه من طرق وقيم .

أن موضوع التطور هذا هو الشغل للباحثين في العقدين الآخرين من هذا القرن *. وكان هذا نتيجة للحرب العالمية الثانية، وما جرته على العالم الغربي بشكل خاص من ويلات ومصائب، فانبرى علماء الاجتماع ـ خصوصا الأنثروبولوجيون ـ لدراسة إمكان تطوير المجتمعات النامية ليصبح هناك مجتمع دولي متناسق ومتقارب في القوة فلا يطمع مجتمع في السيطرة على مجتمع آخر. وقد انطلق هؤلاء العلماء من الفرض القائل أن هناك نوعين من المجتمعات الإنسان ية. النوع الأول: يضم المجتمعات المتطورة أو الصناعية التي وصلت إلى مرحلة عالية في هذا المضمار. وقد أطلق على هذا النوع من المجتمعات صفات كثيرة منها: الصناعية، المتقدمة، الحديثة، العقلانية. وهناك من يطلق عليها اسم المجتمعات الغربية. والنوع الثاني من المجتمعات هو: المجتمعات النامية. وهذه المجتمعات في طريقها إلى التطور. وقد أطلق عليها أيضا صفات كثيرة منها: المتخلفة، المتخلفة البدائية، الشرقية، التقليدية. واختار علماء الإنسان  تسميات أخرى فأطلقوا على النوع الأول اسم المجتمعات الكاتبة (Literate) وعلى النوع الثاني غير الكاتبة (Illiterate) .

وكما أن المجتمعات المتطورة تتفاوت في درجة تطورها، كذلك فان المجتمعات النامية تتفاوت في ذلك. وهناك بعض المجتمعات البدائية الضاربة في البدائية بحيث ترجع إلى العصور الحجرية. ومن هذه المجتمعات قبيلة تاسادي التي اكتشفت أخيرا في أدغال الفلبين **. كذلك فان هناك بعض المجتمعات، من تلك التي يطلق عليها اسم المجتمعات النامية من هو عال في التطور، ويمر بمرحلة تخطى هذه الحقبة للدخول في حقبة المجتمعات المتطورة. ومن هذه المجتمعات، الصين الشعبية، وجمهورية مصر العربية .

والمجتمع العربي لا يقع بجميع قطاعاته في نفس الدرجة من التطور. فهناك قطاعات تقع في أعلى مراحل التطور بين المجتمعات النامية، كسورية ولبنان والأردن، بينما هناك قطاعات أخرى لا تزال في أول الشوط وتحتاج إلى مراحل لتلحق بالقطاعات الأخرى. وحتى في القطاعات المتطورة من المجتمع العربي نجد تفاوتا في درجة التطور. فسكان المدن ـ مثلا ـ يفوقون سكان القرى والبادية في مضمار التطور، وهؤلاء الذين يشتغلون أشغالا حديثة في التجارة والصناعة والوظائف الحكومية، يفوقون من يشتغلون بالزراعة ورعي الماشية. فكما قال ابن خلدون، من أن نوع المهنة التي يمتهنها الفرد تقرر درجة حداثته (حالته) .

إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش

فان اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله .

(ابن خلدون ـ المقدمة :85)

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هي الأسس التي بنى عليها تقسيم المجتمعات الإنسان ية إلى متطورة ونامية ؟

هناك أسس ونظريات متعددة جاء بها باحثون عديدون. فمنهم من جعل الصناعة أساسا لهذا التقسيم. ويتم ذلك بمقارنة مقدار استخدام الحيوان كمصدر للطاقة بدلا من الآلة. وكلما زاد اعتماد المجتمع على الآلة كلما كان أكثر تطورا. ومنهم من نظر إلى الضابط الاجتماعي أساسا للتقسيم. فالمجتمع الذي يعتمد على التقاليد في السيطرة على سلوك الأفراد يكون مجتمعا تقليديا. وكلما مال هذا المجتمع لاستخدام الوازع الداخلي (الضمير) للسيطرة، كلما كان أكثر تطورا. وهناك من أتخذ وسائل الإيصال والإعلام أساسا للحكم. وآخرون اتخذوا مقدار تكامل المجتمع أساسا للتطور .. وهكذا .

وباختصار، فان المفارقة بين المجتمعات النامية والمتطورة ترتكز على أسس هامة هي: درجة التصنيع في هذا المجتمع، ومقدار سيطرة المجتمع على الطبيعة وعلى مقدار الإنتاج، وعلى التركيب الاجتماعي، نظام القيم .
إن من بين هؤلاء، الذين اتخذوا مصدر الطاقة أساسا لتقسيم المجتمعات الإنسان ية إلى حديثة ونامية، ماريون ليفي. فهو يقسم المجتمعات الإنسان ية إلى قسمين رئيسين: المجتمعات الحديثة، والمجتمعات التقليدية. ويقسم كل من هذين القسمين إلى قسمين آخرين حسب درجة الحداثة. فالمجتمع الحديث يكون: أما حديثا أو نسبى الحداثة، والمجتمع التقليدي يكون: أما تقليديا أو نسبى التقليد. ويمكن تعيين موقع أي مجتمع في هذه الأقسام الأربعة على أساس مدى استخدام هذا المجتمع للآلة بدلا من الحيوان كمصدر للطاقة. فالمجتمع الأمريكي، في نظره، مجتمع حديث، والمجتمعات الأوربية نسبية الحداثة، والقطاع الأردني من المجتمع العربي نسبي التقليد، أما القطاع السعودي فهو تقليدي

.(Levy 1966: Passim )
وقد لاحظ ليفي فروقا أربعا في العلاقات بين أفراد المجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية :

1- عقلانية (حديثة) ـ مقابل تقليدية (مجتمعات تقليدية).

2- عامة (حديثة) ـ مقابل خاصة (تقليدية).

3- الدقة في التعبير (حديثة) ـ مقابل التشعب في التعبير (تقليدية).

4- التجنب (حديثة) ـ مقابل العلاقات الحميمة (تقليدية).

(Levy:1966:60)

وهذا يعني أن علاقات أفراد المجتمعات الحديثة مع بعضهم وبعض تكون على أساس عقلاني لا تقليدي. وبينما ينظر أفراد المجتمعات التقليدية بعضهم لبعض على أساس الخصوصيات، وكأنهم أقارب بالدم نجد أفراد المجتمعات الحديثة ينظرون لبعض نظرة إحصائية عامة، كأن لا علاقة خاصة تربطهم سوى أنهم أفراد في مجتمع واحد. كذلك فان الفرد في المجتمع الحديث يكون دقيقا في تعبيره أما الفرد في المجتمع التقليدي فيكون متشبعا يشترط كثيرا في أحاديثه. وأخيرا فان العلاقات التي تربط أفراد المجتمعات التقليدية حميمة وقوية على عكس العلاقات في المجتمعات الحديثة، حيث لا تكون تلك العلاقات ملزمة، ويمكن قطعها في أي وقت يشاء الفرد ذلك .

ونود أن يلفت الانتباه إلى أن ليفي في مفارقته هذه لم يحاول التمييز بين مجتمع وآخر على أسس الحسن والقبح أو الصلاحية وعدمها، وإنما قام بدراسة المجتمعات دراسة موضوعية، ولم يكن من همه إصدار حكم أخلاقي .

وقد شارك كوهن زميله ليفي في نظريته، ولكنه ذهب إلى أبعد منه، حيث قال أن تطور أي مجتمع يعتمد كليا على تطوير مصادر الطاقة فيه. فإذا ما تغيرت مصادر الطاقة ـ من حيوانية إلى آلية مثلا ـ فان المؤسسات الاجتماعية لابد وأن تتغير تبعا لذلك .
كلما استخدم المجتمع نظاما جديدا للطاقة ـ كأن اعتمد على الآلة بدل الحيوان أو الكهرباء بدل البترول ـ وطبق هذا النظام على بيئته الطبيعية، فان النظام الاجتماعي لهذا المجتمع يتغير بحيث يتمكن من استعمال هذه المصادر الجديدة استعمالا فعالا .(Cohen 1968: 41)
وبعبارة أخرى فان كوهين يريد القول بأن النظام الاجتماعي يجب أن يتكيف بمقدار تكيف الطاقة حتى يكون استغلال هذه الطاقة أكثر فاعلية. ويقدم مثلا آخر ليوضح به نظريته، فيقول ك إن نحن قمنا بحراثة الأراضي ـ مثلا ـ بآلات تسير إلكترونيا بواسطة عقل إلكتروني بعيد عن موقع العمل فان هذا سيوفر قوى عاملة كثيرة، وبالتالي لا نجد حاجة ملحة لترابط العائلة كما هي الحال في المجتمعات النامية التي تعتبر العائلة وحدة اقتصادية يساعد بعض أفرادها بعضاً في القيام بأعمالهم وتأمين حياتهم.

أما ريسمان فقد تناول المفارقة بين المجتمعات التقليدية والمتطورة من الناحية الاجتماعية – النفسية للفرد، ومن طرق تربيته وتنشئته الاجتماعية التي تخلق هذه الفروق. فالفرد – في نظر ريسمان – نتائج ثقافته الاجتماعية وتربيته.
اتخذ ريسمان الضابط الاجتماعي، في أي مجتمع، أساساً لتعيين مركز هذا المجتمع بين المجتمعات الأخرى.

فهو كزميلة: ليفي وكوهن، يتحدث عن المجتمعات بفكرتيهما، أي أن هناك مجتمعات تقليدية وأخرى متطورة، ولكنه يطلق على الأولى مجتمعات التقاليد ( tradition – directed ) وعلى الثانية مجتمعات الوازع الداخلي ( inner – directed ) فبينما تسير التقاليد عن النوع الأول من المجتمعات وضوابطها الاجتماعية، نجد أن الثانية تربي الفرد على كبح جماح نفسه من الداخل، وذلك بتأنيب غيره له إذا ما فعل شيئاً يخالف المعايير الاجتماعية. وكتاب ريسمان يبحث في الاتجاه الذي يسير فيه المجتمع الأمريكي، وفي نظره أن المجتمع الأمريكي تخطى النوع الثاني من المجتمعات، وهو في طريقه إلى ما يسميه: مجتمع الآخرين ( other – directed ) أي أن سلوك الفرد وما يضبط هذا السلوك اجتماعياً يعتمد على الآخرين وليس على التقاليد أو الوازع الداخلي ( riesman 1950: passim ) .

تقوم تربية المجتمعات المتطورة على غرس أسس ومثاليات ثقافية في الفرد ثم السماح له بالخروج بعيداً عن الدار والعائلة ليجرب هذه المثل بنفسه وليكتشف مدى تفاعله معها وتفاعلها معه. لذا فإن الحرية شيء أساسي في مثل هذه المجتمعات، وتكون عادة ضمن إطار ثقافي يحدده المجتمع لأفراده، أما في المجتمعات التقليدية فإن الفرد يكون مربوطاً برباط التقاليد التي لا يجرؤ على مخالفتها خشية عقاب المجتمع له بالتعييب والمعايرة، كما هي الحال في مجتمعنا العربي.
وقد وضح ريسمان هذا بقوله:

إن الإنسان  في المجتمعات التقليدية لا يتمكن من الاختيار: تبعاً لمثالياته، فهو لا يتمكن من اتخاذ قرار بشأن شغله أو لعبه. ولا يتمكن من خلق عادات وأذواق وسلوك يخصه وحده ويميزه عن الآخرين. فالتقاليد تقرر له الأشياء وتمليها عليه    ( riesman 1950: 141 ) .
هذا وقد ركز ريسمان على التنشئة الاجتماعية في البيت، وبين رفاق اللعب، وكذلك على التعليم الرسمي في المدارس والمعاهد كأسس لخلق الإنسان  الذي يتحلى بالصفات السابقة، ويتمسك بالتقاليد أو يبتعد عنها .

إن الحمام البيتي ينشأ ليعود رأساً إلى البيت مهما يكن بعيداً عنه (التربية التقليدية)، أما الحمام البري (التربية المتطورة) فهو يطير بعيدا عن البيت إلى هدف غير محدد. وطبيعي أن كثيرا يلاقون ما لاقاه أكاروس (الأسطورة اليونانية – حيث وضع أكاروس أجنحة شمع على جسمه وطار من جزيرة كريت وعندما ارتفع في الهواء أذابت الشمس شمع الأجنحة فسقط ومات) ومع ذلك فان الطاقة المخزونة في هؤلاء الأفراد، والمثاليات التي شحنوا بها منذ الصغر تدفعهم للمغامرة والطيران بعيدا عن البيت ليجربوا مقدرتهم على تحقيق هذه المثاليات وحدهم دون اتباع التقاليد (Reisman 1950 :59)

والنظرية العامة التي قدمها ريسمان ورفاقه لا تبعد كثيرا عن ما قاله فؤاد زكريا الذي وضع العقل أساسا للتفريق بين المجتمعات .فالمرحلة التي يطلق عليها ريسمان (Other-dirccted) يسميها زكريا مرحلة ما بعد المعقول. والاختلاف تقريبا في التسمية أكثر منه في المضمون .
أما سى. ى. بلاك فانه يتناول المفارقة من وجهة نظر المؤرخ. وهذا لم يمنعه من الإنفاق في أغلب الأحيان مع زملائه السابقين. لقد ركز على تراكم المعارف أساسا هاما للتطور حيث يواجه المجتمع، بعد ذلك، بعدم الارتياح لأوضاعه الحاضرة، ويشعر بالحاجة للتغيير، وقد بين ثلاث مراحل هامة يمر بها أي مجتمع في طريقه إلى هدفه :

أولا ـ يطور هذا المجتمع قياداته بحيث تصبح قيادات حديثه، يتخلل ذلك عدة ثورات وانتفاضات تستمر عدة أجيال .

ثانيا ـ يغير هذا المجتمع نظامه الاقتصادي والاجتماعي، ونتيجة لذلك تتناقص حياة الأرياف ويرحل سكانها للمدن التي تتسع وتنمو خصوصا وأنها تحتوي المصانع الهامة. أما العائلة فتصبح في طريقها إلى الاندثار كوحدة اقتصادية وذلك نتيجة للتخصص .

ثالثا ـ وفي هذه المرحلة النهائية يتكامل المجتمع ويصبح عائلة واحدة ولكن رباطه يكون بالقانون بدل رباط الدم. ويصبح ولاء الفرد للدولة بدل العائلة والقبيلة .(Black 1966: 67-78)

لقد اتفق بلاك مع الآخرين بأن المجتمع العربي مجتمع تقليدي. فبينما لم تدخل بعض قطاعاته المرحلة الأولى من التطور، نجد أن قطاعات أخرى بدأت المرحلة الثانية فحدثت قياداتها وطورت نظامها الاقتصادي. أما مرحلة التكامل فلم يصل إليها أي قطاع من المجتمع العربي، ولا زالت جميع قطاعاته تتصارع في المرحلة الثانية. ويركز بلاك في حديثه عن عملية التطور على تراكم المعارف أساسا هاما فيه، كما أنه يصف المجمعات التقليدية بالستاتيكية وذلك لعدم ميلها للتغيير والحركة نحو التكيف مع ما هو جديد. أما المجتمعات المتطورة فيصفها بالديناميكية، ويصف إنسانها بسرعة التكيف مع الظواهر المتغيرة والمستجدة على المجتمع .(Black 1966: 55)

ويلتقي بلاك مع ليرنر في الأوصاف السابقة التي أطلقها على المجتمعات بنوعها. فليرنر يصف الفرد في المجتمعات المتطورة بسرعة الحركة النفسانية وبالقدرة على التكيف السريع يعكس الإنسان  في المجتمعات التقليدية. إلا أنه يضع أسسا تختلف عن تلك التي يضعها بلاك. فبينما يصر بلاك على تكامل المجتمعات التقليدية كمرحلة أخيرة نجد أن ليرنر يعتبر وسائل الإيصال ـ كالراديو والسينما والتلفزيون والجرائد .. الخ .. أسسا لتطوير المجتمعات. فالإنسان  التقليدي الذي بعيش طيلة حياته في مجتمعه الصغير عضوا فعالا فيه ولا يصلح إلا له. ولا يعرف سواه، تربطه وسائل الإيصال بالعالم الخارجي، وبذا يصبح التغير أسهل .(Lerner 1958 :46)

وإذا صح هذا الأساس فانه من السهل إن نرى أهمية التربية، ودور الجامعات في تنشئة المتعلم وتعويده متابعة وسائل الإيصال لمعرفة ما يدور خارج بيئته .

وثمة ظاهرة هامة تستحق الذكر في معرض الحديث عن المجتمعات التقليدية والمجتمعات المتطورة، هي ظاهرة الحالات النفسية عند الأفراد. فالأمراض النفسية، على ما يبدو، تزيد في المجتمعات الحديثة نتيجة لضعف العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. وخصوصا أفراد العائلة الواحدة. كذلك فان التغير المستمر والتنقل بين المجموعات المختلفة تنتج عدم استقرار نفسي عند الإنسان . وقد عبر بلاك عن ذلك بقوله :

إن الإنسان  في المجتمعات المتكاملة فرد وحيد معزول عن مجتمعه وعن تقاليد هذا المجتمع، والمجموعة الاجتماعية التي يتفاعل معها هي العائلة النواة التي غالبا ما تتركه وشأنه يتحسس طريقه في مجتمع جماهيري صخب فتتقاذفه المنظمات المختلفة التي تصبح مسئولة عن توظيفه، وتتحكم في سبيل حياته فتعطيه التقاعد والتأمين الصحي. أن ظروفا كهذه تكون مرتعا خصبا للوحدة فينعدم الأمن والاستقرار النفسي نتيجة لضعف العلاقات الإنسان ية

هذا وإن جميع من كتبوا في مجال التطور يشاطرون بلاك رأيه ويتفقون معه بأن الوحدة الإنسان ية، والحالات السيكولوجية هذه تدفعها المجتمعات المتطورة ثمناُ للكسب المادي وللإنجازات التي تتوصل إليها. إلا أن من الخطأ أن نعزي

أسباب هذه الحالات إلى التطور، والمرجح أن سوء التكيف هو الذي يقود إلى حالات القلق التي يعيشها الإنسان  الغربي.

لقد ألف وليم وايت كتاباً في أواسط الخمسينات بعنوان: الرجل المنتظم ( The Organization Man )، وقد أفرد فيه فصلاً كاملاً عن ( قلق ) ما أسماه بالرجل المنتظم ( Whyta 1957: Chap. III). أثر هذا الكتاب ضجة، كما أنه لاقى قبولاً شديداً لدى الأوساط المفكرة وغيرها في المجتمع الأمريكي، مما أدى إلى طبعه عدة مرات. ويعالج فيه وايت ما وصفه بمأساة العصر فيقول بأنه:
يمكن للرجل المنتظم أن يوافقني الآن بأن التصنيع يجلب الفساد للأخلاق وللروابط الاجتماعية الريفية، أو أن نحطم الأعمال ومنظماتها الكبيرة إلى قطاعات أصغر منها ( Whyte 1967: 13 ).

يستمر وايت في مناقشة موضوع المنظمات وولاء الفرد إليها فيقول بأن هذا الفرد ما يلبث أن يضطر للانتقال إلى منظمة أخرى، ويجد أن عليه أن ينقل ولاءه من المنظمة الأولى إلى الثانية وهكذا … مما يفقده في بعض الأحيان استقراره النفسي، ويوقعه في حيرة بالنسبة لانتمائه، ويستخلص وايت أن:
هدف الفرد هو خلق (( المجتمع المتكيف )) حيث يستمتع الإنسان  هناك بالانتماء الموجود في المجتمعات البدائية دون أن تحسر الإنجازات والفوائد التي توصلت إليها المجتمعات المتطورة ( Whyte 1957: 40 ) .

وبعد، فهذه جولة قصيرة بين بعض ما كتب عن التطور الاجتماعي، والى هذه النقطة كنا نستشهد بما كتبه الآخرون، وما توصل إليه الباحثون، وفي ضوئه
سنعالج مشكلة المجتمع العربي وإمكانات تطويره. فقد أصبحنا الآن في الصورة، نرى المجتمع العربي بين المجتمعات الإنسان ية الأخرى، ونعرف بعض المشكلات التي تجابهه والمرحلة التي هو سائر للدخول فيها. كذلك فإننا رأينا بعض المجالات التي تتمكن الجامعات من دخولها لمساعدة المجتمع العربي في التكيف لدخول المرحلة القادمة.

الخلاصة، الاستنتاجات ،والتوصيات:

بدأت هذه الدراسة بسؤال هام هو: كيف تتمكن الجامعة من تطوير المجتمع ؟

وطبيعي أن تكون أهداف ورسالة الجامعة، أى جامعة نابعة من طبيعة المجتمع الذي أقيمت لخدمته، أو على الأقل، يجب أن تكون كذلك، لذا فإنه من غير الممكن أن نضع أهدافاً محددة لكل الجامعات بغض النظر عن مكانها وزمان وجودها. فالأهداف التي تخدم مجتمعاً معيناً قد لا تخدم مجتمع آخر، خصوصاً إذا كانت هناك فروق في مدى حداثة المجتمعين. والأهداف التي استخدمت في حقبة معينة من الزمن لا يمكن أن تطبق هي نفسها في حقبة تالية.

أن من الطبيعي أن تبدأ الدراسة ( آي دراسة ) بالعموميات كي تتوصل إلى الخصوصيات، وأن تبدأ بالمثاليات، أو تحت ظروف مثالية، ثم تتوصل إلى الواقع. وما ذلك إلا تكتيك علمي متعارف عليه، فعندما حاول علماء الفيزياء قياس تسارع الأجسام الساقطة، مثلاً ،حاولوا إيجاده تحت ظروف مثالية في فراغ تام. والفراغ التام غير موجود في الطبيعة، لكن الظروف المثالية سهلت عليهم قياس التسارع فيها، ومن ثم تمت الحسابات الأخرى كالاحتكاك … الخ … وفي دراستنا هذه بدأنا بالعموميات لنتوصل إلى الخصوصيات، فحاولنا الإحاطة بالمجتمعات الإنسان ية كلها كخلفية تمكننا من رواية المجتمع العربي وفهم طبيعة المرحلة التي يمر فيها. فقد درسنا مجتمعات إنسانية أقل حداثة من المجتمع العربي، كما قدمنا بعض المجتمعات التي هي في نفس مرحلة التطور التي يمر المجتمع العربي فيها. وقد قارنا هذه المجتمعات مع مجتمعات أخرى متطورة
وركزنا في هذه المقارنة على التركيب الاجتماعي والاقتصادي لتلك المجتمعات.

ووضعنا أسساً تميز مجتمعاً عن آخر. ووجدنا أن هناك أسساً فردية وأخرى اجتماعية، وسيكولوجية ومسلكية وتربوية. وذلك لنقرر، ونتنبأ بشيء من الدقة طبيعة المرحلة التي على المجتمع العربي أن يخطو نحوها، منطلقين من الفرض القائل أن فهم طبيعة الشيء يقود إلى التخطيط السليم. وفهم المجتمع المعنى لا بد أن يحدد دور الجامعات فيه. وقد وجدنا أن دور الجامعات العربية هو أن تكون أدوات تكيف تساعد المجتمع في معرفة طريقة. ووجدنا أيضاً أن المجتمعات الإنسان ية في صراع مستمر مع بيئاتها الطبيعية، تخضع لها أحياناً أخرى. وبلغت أهمية هذه الظاهرة درجة جعلتها الأساس الهام في تعيين مركز المجتمع على سلم التقدم. ووجدنا أن الحي الذي لم يتكيف أولم يقوى على التكيف واجه الانقراض. والعضو الحي الدائم التكيف ومجبر عليه فهو إذا في حالة تكيف مستمر ما دام على قيد الحياة. إلا إننا وجدنا أن بعض المجتمعات وهى التقليدية بطيئة التكيف إذا ما قورنت بالمجتمعات المتطورة. وكذلك فإن إنسانها يتصف ببطء التكيف النفسي مما يجعله لا يقبل التغيير إلا بصعوبة. والتغيير كما نعلم عنصر فعال في عملية التكيف. ومن عرضنا السابق السريع للدراسات التي تمت على المجتمعات الإنسان ية، وجدنا أن المجتمع العربي مجتمع تقليدي. ولدى تفحصنا لمعنى هذه الكلمة وجدنا أنها تدل على شيئين: الأول أن المجتمع التقليدي يصارع بيئته بطرق بدائية بسيطة فلا نقوى على استغلال هذه البيئة استغلالا فعالاً كما يجب. والثاني :أن العلاقات الاجتماعية في المجتمع التقليدي لا تساعد على التحكم بالبيئة الطبيعية، كما أنها لا تنتج الدقة في المعاملة، وباختصار فإن الإنسان  التقليدي يخضع للطبيعة، ويفصل نفسه من الحياة العامة ولا يتفتح لها، ولا يعشق التغيير بل يخشاه. كذلك فإنه لا يخطط وإنما يقبل الحياة كما تأتي، ويعتقد بأن محاولة تغييرها إن كانت غير مناسبة رجس من عمل الشيطان. أنه يؤمن بالسحر وبالغيبيات ،ويكون متشائماً في معظم الأحيان، لذا فإنه يرغب في الابتعاد عن السلطة وعن مراكز المسئولية. أنه متواكل إلى درجة التخاذل ولا يبحث في المستقبل ( لأنه بيد الله )، ويعيش الماضي ويتغزل به .

أما الإنسان  في المجتمعات المتطورة، أو ما يطلق عليه عادةً الإنسان  الحديث فهو نشيط يحب العمل وتحمل المسئولية العامة. إنه يخطط للمستقبل ويعتقد أن بالإمكان التحكم فيه. وهو عادة مطمئن للحياة يحاول تحقيق آماله وأحلامه، وهذا يقوده إلى تنفيذ خططه. إنه يؤمن بالتغيير، ولا يحب الهدوء والاستكانة بل يعشق السفر والمغامرات. لا يهمه إن ابتعد عن أقاربه كالإنسان  التقليدي ويشتغل مع أي إنسان، ويتخذ منه صاحباً إذا انسجم معه، بعكس الإنسان  التقليدي الذي يقصر أشغاله وصداقاته العزيزة على الأهل والأقارب.
لذا فإننا نجد في المجتمع الحديث شركات كبيرة ومصانع مزدحمة تضم أناساً من كافة طبقات المجتمع، بينما نجد في المجتمع التقليدي حوانيت صغيرة وشركات لا يتعدى الشركاء فيها أفراد العائلة أو القبيلة.
من المعتقد الآن أن الإجابة عن سؤالنا الأساسي، كيف تتمكن الجامعة من تطوير المجتمع العربي؟ أصبح في متناول اليد، ومن الممكن الإجابة عليه بشيء من الدقة. ولأن المجتمع العربي مجتمع تقليدي فلا بد من تطويره ليصبح مجتمعاً حديثاً يسير نحو هدف معين ومخطط له. ويتم ذلك بتطوير الإنسان  العربي ليصبح إنساناً حديثاً قادراً على التكيف بسهوله مع حياة حديثة متطورة ومتغيرة. ويتم كذلك بتغيير البيئة الطبيعية واستغلالها استغلالا فعالاً، وجعلها مكاناً أكثر ملاءمة للحياة، وهذا بالتالي لا بد وأن يغير علاقة الإنسان  العربي ببيئته الطبيعية فتتم عملية التكيف والتكييف .
ولا بد من التساؤل هنا: من سيأتي أولاً تطوير الإنسان  الذي يكون قادراً على تطوير بيئته؟ أم استخدام الآلة في تطوير البيئة ونتيجة لذلك يتغير الإنسان ؟ وتساؤلنا هذا ليس بعيداً عن السؤال الدجاجة والبيضة أيهما الأصل؟ ومعلوم كما قدمنا سابقاً أن التصنيع يخلق الإنسان  المتطور ومعلوم أيضاً أن لدى الإنسان  المتطور قدرة على التحكم في بيئته. ولا مناص هنا من الاعتراض بأن باحثاً لم يجد الإجابة على هذا التساؤل بعد. إلا أن من الممكن أن نضع احتمالات وفروضاً من شأنها أن تلقي ضوءاً على الجواب .

إن من الممكن للجامعات بحكم رسالتها وأهدافها، وإذا ما نسقت مع الهيئات الأخرى في المجتمع، أن تقوم بدور فعال في تطوير المجتمع، فتخلق الإنسان  العقلاني الذي يتفاعل مع الآخرين بطرق عقلانية ومنطقية بدلاً من الطرق التقليدية السائدة في مجتمعنا العربي. ويمكنها كذلك أن تطبق النظريات العلمية وتترجمها إلى أفعال بدلاً من الاكتفاء وبتحفيظها للطلاب من الكتب. ولنا في المجتمعات المتطورة أسوة حسنة في هذا المجال. ويحدثنا ادموند كنج أستاذ التربية المقارنة في جامعة لندن عن دور الجامعات في كل من الاتحاد السوفيتي وأمريكا في هذا المجال فيقول:

تربط البلدان الشيوعية التعليم الجامعي بعمليات الشغل، ويتطلب التعليم العالي التطبيق كجزء من المقررات. فبدلا مما يسمى في بريطانيا بالمقالة، وفي أمريكا بالتقرير، ـ وهذه تكون من متطلبات المقرر ـ نجد أنهم في روسيا يطلبون التطبيق العملي المنتج في الزراعة والصناعة. وبالتالي يتدرب الطالب على الإنتاج، ويتمكن من تحمل المسئولية لدى تخرجه .(King 1958: 178)

وأما عن التعليم الأمريكي وعن تطبيق النظريات على دنيا العمل فيقول كنج:

تقدمت العلوم البحتة في أمريكا تقدما ممتازا في السنوات الأخيرة .

والنظام التربوي الأمريكي غني عن التعريف بمقدرته العلمية والتطبيق العملي. ولا نبالغ إذا قلنا بأن كل ما نجده في النظريات وفي الكتب النظرية نجد ما يطابقة في الحياة العملية .(King 1958: 120)

يقوم نظام الأبحاث في أمريكا على أكتاف الجامعات من الناحية النظرية. وأما الناحية العلمية فعادة تأخذها الشركات مقابل ثمن تدفعه للجامعات تشجيعا للبحث وللباحثين. ها نحن نرى أن التعليم السوفيتي يهدف إلى خلق المواطن المدرك لأهمية الإنتاج، وذلك بتطبيق ما يدرسه نظريا في الجامعات على الحياة العملية. كذلك نرى كيف يخطو التعليم الأمريكي خطوات واسعة نحو الوصول إلى عالم أفضل، وذلك بتطبيق النظريات المدروسة تطبيقا فعالا في دنيا العمل .
أن من الطبيعي أن يختلف دور الجامعة في التطوير، وتختلف أهدافها من مجتمع لآخر. وذلك متعلق بنوع المجتمع والمرحلة التطورية التي يمر فيها .

فبينما نجد أن واجب الجامعات العربية يتلخص في تطوير المجتمع العربي إنسانه وبيئته الاجتماعية والطبيعية (مع التركيز على البيئة الطبيعية)، نجد أن واجب الجامعات الأمريكية يختلف عن ذلك، لأن طبيعة المجتمع الأمريكي تختلف عن طبيعة المجتمع العربي. وتنحصر أهداف الجامعات الأمريكية، أكثر ما تنحصر في خلق المواطن الذي يصلح للحياة في مجتمع صناعي متطور. وقد نبعت هذه الأهداف من طبيعة المرحلة التي يمر فيها المجتمع الأمريكي. فتطوير البيئة الطبيعية عن طريق التصنيع مرحلة عالية لم يسبق لمجتمع في التاريخ أن وصل إليها. وقد فاق تكييف البيئة الطبيعية تطوير النظم الأخرى الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ..، مما أدى إلى سوء تكييف عند الإنسان  الأمريكي، ولكي يتغلب المجتمع الأمريكي على هذه المشكلة أخذ يطور نظامه التربوي ليخلق الإنسان  المثقف الواعي لواقعة الاجتماعي، والذي يتمكن من الحياة في مجتمع متطور سريع التطور، فخصص السنوات الثلاث الأولى من التعليم الجامعي لشحن الطالب بثقافة عامة تمكنه من فهم النظم الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية .. الخ .. حيث يقدم للطالب مقررات في كل موضوعات التخصص في الجامعة. وأما التخصص النهائي للطالب فلا يتعدى سنة في بعض التخصصات ويصل إلى سنتين في تخصصات أخرى .

أما في أوربا وروسيا فان التخصص الدقيق يبدأ رأسا بعد المرحلة الثانوية وذلك لأن التخصص المبكر يشحن الطالب بقوة في موضوع تخصصه، وهذا ما يمكنه من المساهمة الفعالة في تطوير مجتمعه، ليحلق بالركب الصناعي في أمريكا. ولما وجدوا أنفسهم يتقدمون بخطى واسعة في السنوات الأخيرة أخذوا يضيفون مسافات في الثقافة العامة أكثر من ذي قبل. وهنا، في مجتمعنا العربي، وفي جامعاتنا العربية، لابد من التخصص المبكر لخلق الإنسان  الذي بقوى على فهم العلوم البحتة فقط، وإنما يقوى على تطبيقها. ولخلق الإنسان  الذي لا يتكيف مع مجتمعنا الحاضر فحسب، وإنما له المقدرة على تغيير هذا المجتمع، والتكيف مع مجتمع المستقبل، ولا شك في أن هذا يتطلب جهدا عظيما، ومحاولات جدية للوصول إليه. فدور جامعاتنا يجب أن يكون قياديا، يدرب الطلاب على الإحاطة بالنظريات والاشتغال في مراكز الأبحاث التي لا بد وأن تكون تابعة للجامعات، لا لوزارة أو وزارات أخرى أو بيد شركات تعهد إلى الجامعات بعمل أبحاث تحددها لها، كما هي الحال في أمريكا .

ولكي تقوم الجامعات العربية بدورها بشكل فعال، ولتضمن التغيير المنشود يرى كاتب هذا البحث أن يقدم التوصيات التالية، التي يعتقد بأهميتها

كــ   توصيات

أولاـ وجوب إعطاء الحرية الفكرية والأكاديمية للجامعات العربية كي تتمكن من تطوير مناهجها الأكاديمية والاجتماعية، وخلق المواطن الذي يفكر تفكيرا عقلانيا ويسلك سلوكا عقلانيا في معاملاته وتفاعله مع الناس وفي الوظائف التي سيشغلها بعد تخرجه، ليكون رسولا ينقل ما تعلمه في الجامعة إلى المجتمع .

ثانياـ لا بد من التنسيق بين الجامعات والهيئات الأخرى المسئولة عن التطوير والتصنيع في المجتمع، وذلك لتتمكن الجامعات من انتزاع دورها القيادي في التطوير بدلا من أن تكون تابعة لتلك الهيئات، أو أن تكون مصنعا لإنتاج الشهادات وتخريج الطلاب فقط .

ثالثاـ أن على اتحاد الجامعات العربية أن يزيد الاتصالات واللقاءات بين أصحاب التخصص الواحد من الباحثين، وذلك للتنسيق فيما بينهم والابتداء بوضع حجر الزاوية للبحث الجدي في ذلك التخصص، فتكون هذه اللقاءات نقطة انطلاق علوم عربية مستقلة بدلا من الاعتماد الدائم على المراجع الأجنبية. وكذلك لا بد من وضع مصطلحات متعارف عليها لكل علم تستعمل في كل الجامعات. فكما هو معروف أن كل علم يبدأ بلغة خاصة به. ويعتقد كاتب هذا البحث أن أنجح طريقة لذلك هي تبادل الأساتذة بين الجامعات العربية المختلفة، وعلى نطاق واسع.

رابعاـ لا بد من أخذ موضوع البحث العلمي مأخذ الجد، وانشاء دوريات لكل علم يضع فيها الباحثون إنتاجهم العلمي.

اللغة العربية

اللغة العربية:” اللغة العربية سحر خاص يصلح للأدب والفنون أكثر من صلاحيته للعلوم ويعود ذلك إلى عدم تكييف اللغة وتطويرها لتناسب الروح العلمية للعصر الحاضر…فتركيب اللغة العربية بوضعها الراهن وماضيها من توكيد ومبالغة يبعدها عن الدقة العلمية الضرورية لبناء أي علم، وكثيرا ما يكتفي الإنسان  العربي بسحر الكلمة دون الالتفات إلى مضمونها ( ).
يقول فؤاد زكريا في معرض معالجته للدستور الدائم في مصر العربية: “إن للكلمة عندنا سحرا خاصا وقدرة عجيبة على التأثير، تدفعنا إلى الاكتفاء بها وتغنينا عن بذل المجهود من أجل إخراجها إلى حيز العقل، فنحن لا نحب الكلمة فحسب، بل ودائما نستعيض بها عن الفعل الذي تدعو هذه الكلمة إلى ممارسته عقلانية المجتمع العربي
” لم يصل المجتمع العربي إلى مرحلة المجتمع العقلاني وذلك على الرغم من محاولاته الجادة للدخول فيها. ومن السمات المحيرة لهذه المرحلة السماح للعقل بالتحرر والانطلاق من قيود التقاليد. وقد دخلت المجتمعات الغربية هذه المرحلة منذ زمن طويل. وتحاول هذه المجتمعات اليوم أن تتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة ما بعد الحرية، وقد وصف فؤاد زكريا هذه بقوله: “إن الأزمة عند الغربيين هي أزمة ما بعد العقل، إننا لا زلنا نمر بأزمة ما قبل العقل. إنهم تجاوزوا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الذي ألغوه. أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهزا من أجل اكتشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه

إن مطالب العقل هي التحرر من عبودية التقاليد التي تضع العقل العربي في قالب معين وتطبيعه بطابع يجعله يبتعد عن التفكير الحر
يخلص أحمد خضر إلى النتائج التالية:

” المجتمع العربي مجتمع تقليدي لأنه يصارع بيئته بطرق بدائية بسيطة فلا يقوى على استقلال هذه البيئة استقلالا فعالا كما يجب، وبالتالي فإن العلاقات الاجتماعية في المجتمع التقليدي لا تساعد على التحكم بالبيئة الطبيعية كما انها لا تنجح الدقة في المعاملة .
ذهنية الإنسان  العربي التقليدي :
باختصار الإنسان  التقليدي يخضع للطبيعة ولا يعشق التغيير بل يخشاه، إنه يؤن بالسحر والغيبات، ويرغب في الابتعاد عن السلطة وعن مراكز المسؤولية، نه متواكل إلى درجة التخاذل ولا يبحث في المستقبل لأنه(بيد الله)ويعيش بالماضي وينعزل به
إن الإنسان  في المجتمعات المتطورة نشيط يحب العمل وتحمل المسؤولية، ويخطط للمستقبل ويعتقد بامكانية التحكم فيه، يؤمن بالتغيير ويعشق المغامرة ممانعة العقل البطرياركي ( الأبوي).

ما يزال العقل الأبوي البطرياركي يتحكم بالكثير من حلقات ودوائر المجتمع العربي. فالعلاقات البطرياركية تمارس نفوذا واسعا وتضرب جذورها في العائلة العربية حيث يبدأ هناك تشكل هذا العقل …. فالأسرة لا توافق على الحق المتكافئ لكل أعضائها في التعبير عن الذات فتغيب المشاركة في صياغة واتخاذ القرار ويسود منطق التلقي والتنفيذ لدى الأجيال الجديدة ويتأسس موقف حيال المرأة ودورها يؤدي – فيما يؤدي إليه – إلى تهميشها وقمعها وحرمانها من أبسط حقوق المساواة. والعقل البطرياركي لا يقف عند حدود الأسرة بل ينتقل إلى المدرسة والجامعة فيرفض حق الاختلاف والمعارضة ويمنع من التعبير عن وفي حال تشكله لا يمنع لا يظهر عبر التمرد والتآمر، وهو شكل يواجه يواجه على الأغلب بالقمع بأشكال مختلفة، أو عبر التوسط والتوسل … وما ينتج عن ذلك من فقدان للشخصية الفاعلة والعقلية المبدعة، الأمر الذي يوفر التربة الخصبة لنشوء حكم استبدادي سلطوي وظهور زعماء أفراد، طغاة يتمتعون بسلطات شخصية هائلة يرفضون التخلي عنها مهما كانت الأسباب، بل يعمدون إلى تغذية وتنمية الانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية على حساب الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية المدنية
” نستطيع أن نستخلص من ذلك أن الفكر العربي الفلسفي، وهو يواجه اليوم واحدا من أكبر التحديات في تاريخه، مدعو بداية إلى مغادرة السجال بين الثنائيات المختلفة، أصالة،معاصرة، تراثا، حداثة ديني، مدني…الخ

” من هنا، فالفكر الفلسفي العربي يجب أن يعمل على إعادة بناء العقلية العربية انطلاقا من مقدمات نرى أنه لا بد منها كمدخل لمواكبة العصر والصيرورة جزءا مكنونا له وفيه.

أ- بلورة وصياغة مفهوم للمجتمع المدني العربي، وبناء مؤسساتها المختلفة، نشر قيمه الأساسية في الحرية والإبداع العلمي والفني والفلسفي التي تعطي لكل مجتمع بشري معناه وقيمته التاريخية.

ب_ إزالة الغموض عن مفهوم الديمقراطية، بصفتها خلاصة تجربة إنسانية شاملة، ونزع الحواجز والممانعات من أمام التحول نحوها وجعلها منهج فكر ومجتمع ودولة.

ج_تحتل أنظمة ومناهج وبرامج التعليم عموما، وتدريس الفلسفة بشكل خاص، أهمية مميزة في إرساء الوعي الديمقراطي السليم، وبناء مجتمع ديني مدني راسخ، فانتشار التفكير الفلسفي يحمل على التساؤل والنقاش ونشر مناخ الحرية الفكرية والحس النقدي والاحترام المتبادل. لذا فإننا ندعو إلى التشديد على كمكانة الفلسفة في أنظمة التربية والتعليم العربية، وفي الحقيقة، لو كان ذلك متوافرا لما كان الفكر العربي يعاني حال الفقر والجمود، ولما انتشر التطرف والتعصب- خصوصا في الفترة الأخيرة- الذي هو في أحد تفسيراته نتيجة غياب التربية الفلسفية والتفكير الفلسفي

أحمد خضر أبو هلال